المقدمة

في سنة 1903 صاغ جيمس ألن في كتابه كما يفكر الإنسان يكون حقيقةً همس بها الحكماء والعارفون عبر الدهور: إن الفكر يصوغ الواقع. ليست هذه الصفحات وعظًا أخلاقيًّا فحسب، بل خريطةٌ للوعي—تذكيرٌ بأن كل ظرف، وكل فرح، وكل حزن، يبدأ بذرةً في تربة الذهن الخصيبة.

وبعد أكثر من قرنٍ من الزمان، ما تزال رؤيا ألن تتسع دوائرُها. لقد أثّر عملُه في أجيال من المعلّمين الروحيين وأضحى من ركائز حركة الارتقاء الذاتي المعاصرة، وهو اليوم ينسجم مع مكتشفات عصرنا—حيث تؤكد علومُ الأعصاب لَدونةَ الفكر، وحيث يلمح السالكون—عبر التأمل أو المُخدِّرات النباتية—قابليّة الواقع للتشكّل، وكيف تصوغ الرؤيا الباطنةُ الصورةَ الظاهرة.

إن كما يفكر الإنسان يكون أكثرُ من كتاب—إنه افتتاحٌ وباب. اقرأه بتمهُّل لا على أنه أدبٌ بل كشفٌ؛ ودَعْ كلماته تُذكِّرك بقدرتك الخَلّاقة وبالناموس الأعمق الذي يحكم الحياة: كما تفكر—تكون.

الفهرس

  1. المقدمة
  2. كلمة تمهيدية
  3. الفكر والخُلُق
  4. أثر الفكر على الظروف
  5. أثر الفكر على الصحة والجسد
  6. الفكر والغاية
  7. دور الفكر في الإنجاز
  8. الرؤى والمثل العليا
  9. السكينة
  10. الخاتمة

ملاحظة المترجم: هذه الترجمة تسعى إلى الحفاظ على النبرة الكلاسيكية والإيقاع الموجز الذي امتاز به جيمس ألن. استُخدم «الإنسان / هو» صيغةً عامة حفاظًا على الطابع الكوني والزمني للنص. أُعيدت المقاطع الشعرية في صورة أبيات مع تقديم الإيقاع والوضوح على القافية القسرية. واستُخدمت المصطلحات الروحية الرئيسة بما يوافق الذائقة الأدبية العربية، مع فسحةٍ للبيان البلاغي كي يخدم عمق المعنى.

كما يفكر الإنسان يكون

بقلم جيمس ألن

كلمة تمهيدية

هذا الكتيّب—حصيلةُ تأملٍ وتجربة—ليس مقصودًا به أن يكون رسالةً مستوعِبةً في الموضوع الذي كُثر فيه القول: موضوع قوة الفكر. إنه إيحائيٌّ أكثر منه تفسيريًّا؛ غايتُه أن يبعث في الرجال والنساء اكتشافَ الحقيقة وإدراكَها، وهي أنّ «الإنسان صانعُ نفسِه بنفسه»، بفضل الأفكار التي يختارها ويُنمّيها؛ فالعقل ناسِجٌ ماهر—ينسُج الثوبَ الباطنَ وهو الخُلُق، وينسُج الثوبَ الظاهرَ وهو الظروف—وكما نسج من قبلُ في جهلٍ وألم، فبوسعه الآن أن ينسُج في نورٍ وسعادة.

جيمس ألن.
برود بارك أفنيو،
إلفراكومب،
إنجلترا

الفكر والخُلُق

إن الحكمة القائلة: «كما يفكر الإنسان في قلبه كذلك يكون» لا تُحيط بكينونة الإنسان كلها فحسب، بل تمتد لتبلغ كل حالةٍ وكل ظرفٍ من ظروف حياته. فالإنسان على الحقيقة هو ما يفكّر؛ وخُلُقُه خلاصةُ مجموع أفكاره.

وكما تنبُت النبتة من البذرة، ولا تكون بغيرها، كذلك كلُّ فعلٍ يصدر عن الإنسان ينبت من بذورٍ خفيةٍ في الفكر، ولا يكون بغيرها. وينطبق هذا على الأفعال التي تُسمّى «عفوية» و«غير مُدبَّرة» كما ينطبق على الأفعال المقصودة المحسوبة.

الفعل زَهرةُ الفكر؛ والسرورُ والألم ثمرتُه؛ وهكذا يحصُد الإنسان حلاوةَ أو مرارةَ زَرعه.

«لقد صاغ الفكرُ في الذهنِ هُوِيَّتَنا،
وبالفكرِ شُيِّدنا وبُنينا؛
فإن سَكَنَ فكرُ المرءِ شرًّا أتاه الألمُ
كما يأتي العَجلةُ وراءَ الثور….»

«وإن صَبَرَ على طهارة الفكر
أدركتهُ الفرحةُ كظلِّه—لا محالة.»

الإنسانُ نامٍ بالناموس لا مصنوعٌ بالحيلة؛ والسببُ والنتيجةُ مطّردان في خفاء عالم الفكر اطِّرادَهما في عالم المادة المرئية. إن الخُلُقَ النبيلَ الإلهي ليس منحةً ولا صدفةً، بل ثمرةُ جهدٍ متواصلٍ في التفكير السليم، وأثرُ مصاحبةٍ طويلةٍ لأفكارٍ إلهية. وكذلك الخُلُقُ الدنيُّ الحيواني نتيجةُ إيواءِ الأفكار الوضيعة.

الإنسان يصنع نفسَه أو يهدمها بنفسه؛ ففي حدائد الفكر يصنع الأسلحةَ التي يُهلِك بها ذاتَه، وبها يصوّغ الأدواتِ التي يبني بها لنفسه «قصورَ السماء» من قوةٍ وفرحٍ وسلام. بالاختيار القويم والتطبيق الحق للفكر يرقى الإنسان إلى الكمال الإلهي؛ وبسوء الاستعمال ينحدر دونَ مَرتَبة الحيوان. وبين هذَين الطرَفين درجاتُ الخُلُق كافة، والإنسانُ صانعُها وسيدُها.

ومن أجمل الحقائق المتصلة بالنفس، التي أُعيد اكتشافُها في هذا العصر، حقيقةٌ أفرحُ وأغزرُ وعدًا من غيرها، وهي أنّ الإنسان سيدُ فكره، مُشكِّلُ خُلُقه، صانعُ أحواله وبيئتِه ومصيره.

بوصفه كائنًا ذا قوةٍ وعقلٍ ومحبةٍ، وربًّا لأفكاره، يمسك الإنسان مفتاحَ كل حالٍ ويحمِل في ذاته العُدّةَ المُحوِّلة المُجدِّدة التي يصنع بها ما يشاء من نفسه.

والإنسان سيّدٌ دائمًا—حتى في أضعف حالاته—إلا أنه في الضعفِ والهبوط سيدٌ أحمق يسيء حُكمَ «بيته». فإذا بدأ يتأمل حالَه ويبحث جادًّا عن الناموس الذي قام عليه وجودُه، صار سيدًا حكيمًا يوجّه طاقاتِه بعقلٍ ويُصوِّغ أفكارَه لثمارٍ مُثمِرة. هكذا يغدو سيدًا واعيًا؛ ولا يكون الإنسان كذلك إلا باكتشافه في ذاته قوانينَ الفكر—وذلك لا يُنال إلا بالممارسة والتحليل الذاتي والتجربة.

وكما لا يُنال الذهبُ والماسُ إلا بكثرة التنقيب، كذلك يقدر الإنسان أن يجد كلَّ حقيقةٍ متصلةٍ بكينونته، إن هو حفر عميقًا في منجم نفسه؛ وإنه ليبرهن—بغير خطأ—أنه صانعُ خُلُقه ومُشكِّلُ حياتِه وباني مصيرِه، إذا راقب أفكارَه وضبطَها وبدّلها، وتتبّع آثارها عليه وعلى غيره وعلى حياتِه وظروفه، رابطًا السببَ بالنتيجة بمرانٍ صبورٍ وفحصٍ مُداوِم، مُنتفعًا بكل خبرة—حتى التافه منها في اليوميّ من الأمور—لتحصيل معرفةٍ بنفسه هي الفهمُ والحكمةُ والقوة. وفي هذا السبيل—على خلاف ما سواه—الناموسُ مطلق: «من يَطلُبْ يَجدْ، ومن يَقرَعْ يُفتَحْ له». فلن يدخل أحدٌ بابَ هيكل المعرفة إلا بالصبر والمُمارسة والإلحاح.

أثر الفكر على الظروف

يجوز تشبيهُ عقل الإنسان ببستانٍ: قد يُفلَح بعقلٍ وإتقان، وقد يُترك لفوضاه؛ لكنه في الحالين سيُثمِر لا محالة. فإن لم تُلقَ فيه بذورٌ نافعة، سقطت فيه—حتماً—بذورُ الأعشاب الضارة، واستمرّت تُنبتُ على أشكالها.

وكما يعكف البستاني على رُبعه ينقّيه من الأعشاب، ويُنبتُ ما يشاء من زهرٍ وثمرٍ، كذلك للإنسان أن يرعى بستانَ عقلِه؛ يستأصلَ الفكرَ الفاسدَ والعبثيَّ والنجس، ويُنمّي—نحو الكمال—زهورَ الأفكارِ الصالحة وثمراتِها النافعة. وباتباع هذا النهج يتكشف له، عاجلًا أو آجلًا، أنه البستانيُّ السيّدُ لنفسه، مديرُ حياتِه. ويكشف في داخله قوانينَ الفكر، ويفهم—بأَناةٍ تزداد دقةً—كيف تعمل قوى الفكر وعناصرُ الذهن في تشكيل خُلُقه وظروفه ومصيره.

الفكرُ والخُلُقُ واحد؛ ولأن الخُلُقَ لا يظهر ولا يُعرَف إلا عبر البيئة والظرف، فإن الشروطَ الظاهرةَ لحياة المرء دائمًا ما تُناسِب حالتَه الباطنة. وليس معنى ذلك أنّ ظروفَ الإنسان في لحظةٍ ما تدل على تمام خُلُقه؛ بل معناها أنّ تلك الظروف مرتبطةٌ أيما ارتباطٍ بعنصرٍ فكريٍّ حيويٍّ في داخله، حتى إنها—في حينها—لا غنى عنها لنُموّه.

كل إنسانٍ حيث هو بناموس كينونته؛ فالأفكار التي بَناها في خُلُقه جاءت به إلى موضعه؛ وليس في ترتيب حياتِه نصيبٌ للمصادفة، بل الكلُّ ثمرةُ ناموسٍ لا يخطئ. وهذا حقٌّ في حقّ الساخط على محيطه كما هو في حقّ الراضي به.

وبما أن الإنسانَ كائنٌ نامٍ مُتطوِّر، فهو حيث هو ليَتعلّم فيَنمُو؛ فإذا استوعب الدرسَ الروحيَّ الذي يحمله ظرفُه انقضى ذلك الظرفُ وجاء غيرُه.

يبقى الإنسانُ مَدْفوعًا بالظروف ما دام يظن نفسه مخلوقًا لعواملَ خارجة؛ فإذا أدرك أنه قوةٌ خَلّاقة، وأنه قادرٌ على أن يأمر التربةَ والبذرةَ الخفيّة في ذاته التي تنبت منها الظروف، صار—عندئذٍ—سيّدَ نفسه بالحق.

كلُّ من مارس ضبطَ النفس وتطهيرها ردحًا من الزمن يعلم أن الظروف تنبتُ من الفكر؛ إذ يرى أنّ تبدّلَ أحواله كان على نسبةٍ مباشرةٍ من تبدّل حاله الذهنية. حتى إنه إذا عالج المرءُ—بجدّ—نقائصَ خُلُقه، وتقدّم سريعًا تقدّمًا بيِّنًا، مرّ على عَجَلٍ بأطوارٍ متعاقبةٍ من التقلبات.

إن النفسَ تجذب ما تُضمِرُه في خفاء: ما تُحِبّه وما تخشاه؛ تبلغ سنامَ آمالِها العزيزة، وتهوي إلى حضيضِ شهواتها غير المُهذّبة؛ والظروفُ هي الوسيلةُ التي بها تنال النفسُ ما لها.

كلُّ بذرةِ فكرٍ تُزرَع أو تُترَك لتسقط في الذهن فتأخذ فيه مأخذَها، تُنتِجُ نوعَها؛ فتزهر—عاجلًا أو آجلًا—فعلًا، وتحمل ثمرتها من الفرص والظروف. الأفكارُ الصالحةُ تُثمر خيرًا؛ والطالحةُ تُثمر شرًّا.

العالمُ الخارجي من الظروف يتشكّل على مثال العالم الداخلي من الفكر؛ والملائمُ وغيرُ الملائم من الأحوال الخارجية كلاهما من العوامل التي تعمل للخير النهائي للفرد. والإنسانُ حصّادُ زرعِه، يتعلّم بالألم كما يتعلّم بالسعادة.

باتّباع الرغباتِ والأمانيّ والأفكارِ المتسلّطة عليه—سواء ركض وراء سرابِ الخيالات النجسة، أو سلك جادًّا طريقَ المسعى القويّ العالي—يبلغ الإنسان أخيرًا ثمراتِها وتحققَها في أحوال حياتِه. إنّ قوانينَ النُّموّ والتسوية نافذةٌ في كل مكان.

لا يبلغ المرءُ دار الفقراء أو السجنَ بجبروتِ قَدَرٍ أو ظرفٍ، بل بطريق الأفكار الوضيعة والرغائب الدنيّة. وكذلك لا يسقط صاحبُ القلب النظيف فجأةً في جريمةٍ تحت ضغطِ قوةٍ خارجية؛ بل إنّ فكرَ الجريمة قد لُوِّحِظَ طويلًا في الخفاء، فجاء وقتُ الفرصة فكشف قوّتَه المجموعَة. ليس الظرفُ هو ما يَصنع الإنسان؛ بل هو ما يكشف الإنسانَ لنفسه. فلا يكون انحدارٌ إلى الرذيلة وآلامِها إلا حيث الميولُ الرذيلة، ولا يكون ارتقاءٌ إلى الفضيلة وسعادتها الصافية إلا حيثُ تُزرَع الآمالُ الفاضلة، ويُرعَى نُمُوُّها على الدوام. ومن ثَمَّ، فالإنسان—باعتباره ربَّ الفكر وسيّدَه—صانعُ نفسه، مُشكِّلُ بيئتِه، واضعُ تأليفها. بل إن النفس تأتي منذ الميلاد بما يخصّها، وتستجلب—في كل خطوةٍ من رحلتها الأرضية—تراكيبَ من الأحوال تكشف حقيقتَها؛ فهي مرآةُ طُهرِها ودنسِها، قوتِها وضعفِها.

الناس لا يَجذِبون ما يريدون، بل ما هم عليه. تُحبط نزواتُهم وأمانيّهم وطموحاتُهم عند كل خطوة، أما أفكارُهم وأمنياتُهم الأعمق فتُغذَّى—طِيبَت أم خبُثَت—من غذائِها. إن «الألوهية التي تُصوغ مصائرنا» فينا—هي ذواتُنا. لا يُقيِّد الإنسانَ إلا نفسُه: الفكرُ والفعلُ هما سَجّانا القدر—يُسجِنان إذا كانا دنيَّين؛ وهما ملَكا الحرية—يُطلقان إذا كانا نبيليْن. ليس ما يتمناه المرءُ ويدعو به هو ما يناله؛ بل ما يستحقه بالعدل. تُستجاب أمانيه ودعواتُه حين تتناسق مع أفكاره وأعماله.

فما معنى «مقاومة الظروف» إذن؟ معناها أن الإنسان يحتجُّ—على الدوام—على أثرٍ خارجَه، فيما يُغذّي ويحفظ سببَه في قلبه. وقد يكون السببُ رذيلةً مقصودةً أو ضعفًا غيرَ مقصود، لكنه—كيفما كان—يُبطِّئ مسعى صاحبِه إبطاءً عنيدًا، داعيًا إلى العلاج.

يتشوّف الناس إلى تحسين ظروفهم، لكنهم يأبَون تحسين أنفسهم؛ فلذلك يظلون أسرى. أمّا من لا يتهيب «صَلبَ النفس» فلا يُخفق في بلوغ ما عَقَد عليه قلبَه. وهذا في شؤون الدنيا كهو في شؤون السماء. فحتى مَن قصارى همّه اكتسابُ المال لا بد أن يتهيّأ لتضحياتٍ جسيمة قبل أن يُدرك غايتَه؛ فكيف بمن يريد حياةً قويّةً راسخة؟

هذا رجلٌ بائسُ الفقر، شديدُ الرغبة في تحسين بيئتِه وراحةِ منزله، ولكنه يُهمِل عملَه، ويرى نفسَه مُحِقًّا إن هو خدع صاحبَ العمل بحُجة ضآلة الأجر. مثل هذا لا يفهم أبسط مبادئ الازدهار الحق؛ فهو ليس غيرَ عاجزٍ عن الخروج من بؤسِه، بل هو—بأفكارِ الكسل والخداعِ وقلةِ المروءة التي يعيشها—يجتذب إلى نفسه بؤسًا أعمق.

وهذا غنيٌّ ابتُلي بداءٍ مُؤلمٍ مُزمنٍ بسبب نَهَمِه؛ يرضى أن يُنفِق أموالًا طائلةً ليدفع عن نفسه البلاء، لكنه لا يُضحّي بشهوة النَّهَم. يريد متاعَ الأطعمة الدسمة غير الطبيعية ويريد الصحةَ معًا. مثل هذا لا يستأهل الصحةَ، لأنه لم يتعلّم بعدُ أولياتِ الحياة الصحية.

وهذا صاحبُ عملٍ يلتفّ على النظام ليتجنب أجرَ المِثْل؛ بل يُقلِّص أجورَ عمّاله رجاءَ فائدةٍ أكبر. مثل هذا غير مؤهلٍ للرخاء؛ فإذا أفلس في السمعة والمال معًا لام «الظروف»، وهو لا يدري أنه المؤلفُ الوحيدُ لحاله.

إنما سردتُ هذه الأمثلة الثلاثة تمثيلًا للحقيقة: أنّ الإنسان مُسبِّب—وإن يكن في الأكثر غيرَ شاعر—لظروفه، وأنه فيما يهدف إلى غايةٍ حسنة يخذل—على الدوام—تحققَها بتشجيع أفكارٍ ورغائب لا يمكن أن تتناسق مع تلك الغاية. ويمكن إكثارُ هذه الأمثلة وتلوينُها، لكن لا حاجة؛ فالقارئ—إن عزم—يقدر أن يتتبّع عملَ قوانين الفكر في عقلِه وحياتِه، وما لم يفعل ذلك فلن تُغنيَه الوقائعُ الخارجيةُ وحدَها أساسًا صحيحًا للتفكير.

على أن الظروفَ مُعقّدة، والفكرَ عميقَ الجذور، وشروطَ السعادة تختلف اختلافًا كبيرًا باختلاف الأفراد؛ ولذا فحالةُ نفسِ الإنسان كلها—وإن كان عارفًا بها—لا تُقاس عند غيره من الظاهر وحده. قد يكون الإنسان صادقًا في جوانبَ ما، ومع ذلك يُكابِدُ شِدّة؛ وقد يكون غيرَ أمينٍ في جوانبَ ما، ومع ذلك يكتسبُ مالًا؛ لكن الحُكْمَ الدارج—أن الأولَ يُخفق بسبب صدقه الخاص، وأن الثاني ينجح بسبب خيانته الخاصة—إنما هو حُكمٌ سطحي يَفترض أن الخائنَ كله فسادٌ، وأن الصادقَ كله فضيلة. ومع المعرفة الأعمق والتجربة الأوسع يتبيّن خطؤُه. فلعلّ للخائنِ فضائلَ محمودةً لا يملكها الآخر، ولعلّ للصادقِ رذائلَ بغيضةً لا توجد عند الآخر. كلاهما يحصد ما زرع: الصادقُ ينال ثمراتِ صدقه كما يجلب على نفسه آلامَ رذائله؛ والخائنُ كذلك يجمع شقاءَه وسعادته.

يُرضي كبرياءَنا أن نظنّ أننا نتألّم لأجل فضيلتنا؛ ولكن لا يَحِقُّ لإنسانٍ أن يجزم بأن آلامَه ثمرةُ خيرِه لا شرِّه حتى يَقتلَع من عقلِه كلَّ فكرٍ سقيمٍ مُرٍّ نجس، ويغسل من نفسِه كلَّ دَنَس. وعلى الطريق—قبل بلوغ تلك الغاية العليا—يكتشف—عامِلًا في عقلِه وحياتِه—الناموسَ العظيم العادل على الإطلاق، الذي لا يُعطي خيرًا عن شرٍّ ولا شرًّا عن خير. فإذا امتلك هذا العلم، علم—راجِعًا إلى جهلِه القديم وعماه—أن حياتَه كانت—وما تزال—مُنظَّمةً بالعدل، وأن تجاربَه كلَّها، خيرَها وشرَّها، إنما كانت عملًا عادلًا مُنصِفًا لذاتِه النامية—وإن لم تكتمل.

لا تُنتِج الأفكارُ والأعمالُ الصالحةُ نتائجَ سيئةً قط؛ ولا تُنتِج الأفكارُ والأعمالُ السيئةُ نتائجَ حسنةً قط. ما ذلك إلا كقولنا: لا يأتي من القمح إلا قمح، ولا من القُرّاص إلا قُرّاص. الناس يفهمون هذا في العالم الطبيعي فيعملون به؛ لكن قليلين يفهمونه في العالم الذهني والأخلاقي—مع أن سيرَه هناك بالبساطة والاطراد أنفسِهما—ولذلك لا يتعاونون معه.

إن المعاناةَ دائمًا أثرُ فكرٍ خاطئ في وجهٍ ما. هي علامةُ أن الفرد خارجٌ عن الانسجام مع نفسه ومع ناموس كينونته. ووحيدُ منفعةِ الألم العليا أن يُطهِّر—أن يحرق كلَّ ما هو عاطلٌ نجس. يزول الألمُ عمن طَهُر. لا معنى لصهر الذهب بعد نزع خبثِه؛ وكذلك لا يتألّم كائنٌ طاهرٌ مُستنير.

الظروفُ التي يلقى فيها المرءُ المعاناةَ نتيجةُ لاختلالِه الذهني؛ والظروفُ التي يلقى فيها الغِبطة نتيجةٌ لانسجامِه الذهني. الغِبطة—لا المتاعُ المادي—ميزانُ التفكير الحقّ؛ والشقاء—لا قِلّةُ المتاع—ميزانُ التفكير الفاسد. قد يكون المرءُ ملعونًا غنيًّا؛ وقد يكون مباركًا فقيرًا. ولا تجتمع الغبطةُ والغنى إلا إذا استُعمل الغنى استعمالًا سليمًا حكيمًا؛ ولا ينحدرُ الفقيرُ إلى الشقاء إلا إذا رأى قَدَرَه حِملًا جائرًا عليه.

الفاقةُ والشَّرَه طرفا الشقاء؛ كلاهما على سواءٍ مُنافٍ للطبيعة، وكلاهما نتيجةُ فوضى ذهنيّة. ولا يكون الإنسانُ سويّ الحال حتى يكون سعيدًا صحيحًا مزدهرًا؛ والسعادةُ والصحةُ والازدهارُ ثمرةُ تسويةٍ متناغمة بين الباطن والظاهر، بين الإنسان ومحيطه.

إنما يبدأ الإنسانُ أن يكون إنسانًا حين يكفُّ عن النَّدب والتذمُّر، ويأخذ في طلب العدل الخفي الذي يُقوِّم حياتَه. فإذا سوّى عقلَه على ذلك المُقوِّم، كفَّ عن اتّهام الآخرين بأنهم سببُ حالِه، وبنى نفسَه بأفكارٍ قويّةٍ نبيلة؛ وكفَّ عن الركلِ في وجه الظروف، وبدأ يستعملُها عَوْنًا على تقدُّمِه السريع، ووسيلةً لاكتشاف القوى والإمكانات الكامنة في ذاته.

النظام—لا الفوضى—هو المبدأُ الغالب في الكون؛ والعدل—لا الظلم—روحُ الحياة وجوهرُها؛ والاستقامة—لا الفساد—قوةُ التشكيل والتحريك في الحكم الروحي للعالم. فإذا كان ذلك كذلك، فما على الإنسان إلا أن يُقيمَ نفسَه على الحق ليجدَ الكونَ قائمًا على الحق؛ وفي أثنـاءِ إقامةِ نفسِه يجد أنه كلما بدّل أفكارَه نحو الأشياء والناس، تبدّلت الأشياءُ والناسُ نحوه.

وبرهانُ هذه الحقيقة في كل إنسان؛ ولذا فهي تقبلُ البحثَ اليسير بالتأمّل المُنظّم وتحليلِ النفس. ليُبدِّل المرءُ أفكارَه تبديلًا جذريًّا، ثم ليتعجّب من سرعة التحول الذي يراه في الشروط المادية لحياته. يظن الناس أن الفكر يمكن كتمُه، وليس كذلك؛ فهو يتبلور سريعًا عادةً إلى عادةٍ، والعادةُ تتصلّبُ إلى ظرف. فالأفكارُ الحيوانيةُ الدنيّة تتبلورُ عاداتِ السكرِ والفجورِ، فتتصلّبُ ظروفَ فاقةٍ ومرض؛ والأفكارُ النجسة—مهما لم تُمارَس جسديًّا—تتبلورُ عاداتِ إنهاكٍ والتباسٍ، فتتصلّبُ ظروفَ تشتيتٍ وعُسر؛ وأفكارُ الخوف والشكِّ والتردّد تتبلورُ عاداتِ ضعفٍ ولا مروءةٍ ولا حَزم، فتتصلّبُ ظروفَ إخفاقٍ وفاقةٍ وتبعيّةٍ مُذلّة؛ وأفكارُ الكسل تتبلورُ عاداتِ قَذَرٍ وخيانة، فتتصلّبُ ظروفَ دَنَسٍ ومسكنة؛ وأفكارُ البغض والإدانة تتبلورُ عاداتِ اتّهامٍ وعنف، فتتصلّبُ ظروفَ أذًى واضطهاد؛ وأفكارُ الأنانية تتبلورُ عاداتِ طلبِ النفس، فتتصلّبُ ظروفًا مُقلِقةً على مقاديرَ مختلفة. وعلى الضد: الأفكارُ الجميلةُ بكل ألوانها تتبلورُ عاداتِ لينٍ ومودةٍ، فتتصلّبُ ظروفًا مُشرقةً مُشمِسة؛ والأفكارُ الطاهرة تتبلورُ عاداتِ اعتدالٍ وضبطِ نفس، فتتصلّبُ ظروفَ سكونٍ وسلام؛ وأفكارُ الشجاعةِ والاعتمادِ على النفس والحَسم تتبلورُ عاداتٍ رجولية، فتتصلّبُ ظروفَ نجاحٍ وسَعةٍ وحرية؛ والأفكارُ النشيطة تتبلورُ عاداتِ نظافةٍ وجِدّ، فتتصلّبُ ظروفَ طِيبٍ ورَوح؛ والأفكارُ الرقيقةُ الغافرة تتبلورُ عاداتِ رِفق، فتتصلّبُ ظروفَ حمايةٍ وصيانة؛ وأفكارُ المحبةِ ونفيِ الذات تتبلورُ عاداتِ نُكرانِ النفس لأجل الآخرين، فتتصلّبُ ظروفَ ازدهارٍ مُقيمٍ وغنىً حقٍّ.

إن قطارًا مخصوصًا من الفكر—خيرًا كان أو شرًّا—إذا أُلحِق به الإصرارُ لا بد أن يُنتِج نتائجَه في الخُلُق والظروف. ولا يستطيع المرء أن يختار—اختيارًا مباشرًا—ظروفَه؛ لكنه يستطيع أن يختار أفكارَه، فيُصوِّغ—من طريقٍ غير مباشرة ولكن محقَّقة—ظروفَه.

الطبيعةُ تُساعِد كلَّ إنسانٍ على إشباعِ الأفكار التي يُشجّعها أكثر؛ فتتهيّأ الفرصُ التي تُظهِر—على أسرع وجه—خيرَ تلك الأفكار وشرَّها.

لِيَكُفَّ المرءُ عن أفكارِ الإثم، تلِنْ له الدنيا وتتهيّأ لمعونته؛ وليطرح عنه أفكارَ الضَّعف والسَّقَم، فإذا الفرصُ تنبُت من كل ناحية تُعينُ عزائمَه القوية؛ وليُشجِّع الأفكارَ الصالحة، فلا قَدَرٌ عسيرٌ يُقيّده إلى الشقاء والعار. إن العالم مِشكالُك؛ وتراكيبُ ألوانه المتغيرة في كل لحظةٍ صورٌ مضبوطةٌ لضبطٍ بديع لأفكارِك المتحركة أبدًا.

«كن ما تشاءُ أن تكون؛
لتجدِ الهزيمةُ رضًا كاذبًا في كلمةِ “البيئة”،
أما الروحُ فتعافُها وهي حرّة.»

«هي تملكُ الزمن، وتفتحُ الفضاء،
وتُخضِعُ ذاك المُخادِعَ المتبجّح—”الصُّدفة”،
وتأمرُ “الظرف” الطاغي أن ينزعَ التاج،
ويأخذَ مقامَ الخادم.»

«إن إرادةَ الإنسان—تلك القوةُ الخفية،
سليلةُ نفسٍ لا تموت—
تشقُّ طريقًا إلى أيِّ غايةٍ
ولو قامت في وجهِها جُدرانُ الغرانيت.»

«فلا تَجزَع من الإبطاء؛
وانتظرْ انتظارَ من يفهم؛
فإذا نهضتِ الروحُ وأَمَرَتْ
كانت الآلهةُ على أهبةِ الطاعة.»

أثر الفكر على الصحة والجسد

الجسدُ خادمُ العقل؛ يُطيع أعمالَه—سواء أكانت مختارةً عن روية أم مُعبَّرًا عنها تلقائيًّا. بأمر الأفكار غير المشروعة يَسقط الجسدُ سريعًا إلى المرض والفساد؛ وبأمر الأفكار السعيدة الجميلة يكتسي نضرةَ الشباب وجمالَه.

الصحةُ والمرض—كالظروف—متجذّران في الفكر. الأفكارُ السقيمة تُعبِّر عن نفسها عبر جسدٍ سقيم. قُتِل رجالٌ بأفكارِ الخوف قَتْلَ الرصاصة؛ والخوفُ يقتل كل يوم آلافًا—ولو كان أبطأَ أثرًا. الذين يعيشون خائفين من الداء هم الذين يُصابون به. القلقُ يُربك الجسدَ برُمّتِه مسرعًا، ويفتحُه لدخول العِلّة؛ والأفكارُ النجسة—ولو لم تُمارَس جسدًا—تُحطِّم الجهاز العصبيّ سريعًا.

الأفكارُ القويةُ الطاهرةُ السعيدة تُشيّد الجسدَ قوةً ورونقًا. فالجسدُ أداةٌ لطيفةٌ قابلةٌ للتشكيل، تستجيب رشيقًا للأفكار التي تُطبَعُ بها؛ وعاداتُ الفكر تُنتج آثارَها—خيرًا أو شرًّا—عليه.

وسيظل الناسُ ذوي دمٍ فاسدٍ ملوّث ما داموا يُفشون الأفكارَ النجسة؛ فمن قلبٍ طاهرٍ تأتي حياةٌ طاهرةٌ وجسدٌ طاهر؛ ومن ذهنٍ مُدنَّس تأتي حياةٌ مُدنَّسة وجسدٌ فاسد. الفكرُ منبعُ الفعل والحياةِ والتجلّي؛ فإذا طَهُر المنبعُ طَهُر الكلّ.

لا يُغني تبديلُ الطعامِ من يأنف تبديلَ أفكاره. فإذا طَهُر فكرُ المرء زهد طعامًا نجسًا.

الأفكارُ النظيفةُ تصنعُ العاداتِ النظيفة. وما «الزاهدُ» الذي لا يغسل جسدَه بزاهد. ومن قوّى وطهّر فكرَه لا يحتاجُ إلى الاهتمام بالميكروب الخبيث.

إن أردتَ حماية جسدِك فاحرس عقلَك؛ وإن أردتَ تجدُّد جسدِك فجمِّل عقلَك. إن أفكارَ الضغينة والحسد وخيبة الأمل والقنوط تسلبُ الجسدَ صحتَه ورونقَه. الوجوهُ العَبوسة لا تأتي مصادفةً؛ تصنعها الأفكارُ العَبوسة. والتجاعيدُ المشوِّهةُ ترسمها الحماقةُ والشهوةُ والكِبر.

أعرفُ امرأةً في السادسة والتسعين لها وجهُ فتاةٍ مُنيرٌ بريء؛ وأعرفُ رجلًا دونَ منتصف العمر وجهُه مشدودٌ إلى خطوطٍ غير مُتناسقة. الأولى ثمرةُ طبعٍ حلوٍ مُشمِس؛ والثاني ثمرةُ شهوةٍ وسخط.

وكما لا يكون مسكنٌ طيّبٌ مُنعشٌ إلا إذا دخلته الشمسُ والهواءُ حرَّيْن، كذلك لا يكون جسدٌ قويٌّ ووجهٌ سعيدٌ مُنيرٌ سَكِينٌَ إلا من دخول أفكارِ الفرحِ وحُسنِ النيةِ والسكينة إلى العقل دخولًا حرًّا.

على وجوه الشيوخ تجاعيدُ رسمَتْها الشفقة، وأخرى رسمتْها الأفكارُ القويةُ الطاهرة، وأخرى نحتَتْها الشهوة؛ ومن لا يُفرّق بينها؟ عند من عاشوا بالاستقامة يكون الكِبَرُ هادئًا سِلميًّا رائقًا—كغروب الشمس. لقد شهدتُ في الآونة الأخيرة فيلسوفًا على فراش الموت؛ لم يكن شيخًا إلا في السنين، ومات حلوًا هادئًا كما عاش.

ليس طبيبٌ كالفكر المُبتهج لتبديد أدواءِ الجسد؛ وليس مُعزٍّ يُضارعُ حُسنَ النية في تفريق ظلال الحزن والأسى. إن العيش في أفكارِ السوءِ والسُّخرية والرِّيبة والحسد سجنٌ محفورٌ باليد؛ وأما حُسن الظنّ بالناس والبِشرُ لهم وتعلُّمُ التماس الخير فيهم بصبرٍ—فمثلُ هذه الأفكار غير الأنانية أبوابُ السماء؛ ومن أقام يومَه يومًا في أفكارِ السلام لكل ذي روح، فسلامٌ غامرٌ لصاحبِها.

الفكر والغاية

لا إنجازَ عاقلًا حتى يُربَط الفكرُ بالغاية. عند أكثر الناس تُترك سفينةُ الفكر «تهيم» على محيط الحياة. إن انعدام القصد رذيلةٌ؛ ولا بُدّ من وضع حدٍّ لهذا الانجراف لمن أراد أن يَسْلَمَ من الكارثة والهلاك.

من لا غايةَ مركزيةً لهم في الحياة تَغلِبُهم الهمومُ الصغيرةُ والمخاوفُ والمشكلاتُ والرثاءُ للذات—وكلُّها علاماتُ ضعفٍ تؤدّي—كما تؤدي الخطايا المُدبَّرة ولكن من طريقٍ آخر—إلى الفشل والتعاسة والخسارة؛ فالضَّعفُ لا يدوم في كونٍ تتنامى فيه القوة.

على الإنسان أن يتصوّر في قلبه غايةً مشروعةً، ثم ينهض لتحقيقها؛ وليجعل تلك الغايةَ محورَ أفكاره. قد تتجلّى مثلًا أعلى روحيًّا، وقد تكون غايةً دنيويةً بحسب طبعه في حينه؛ لكن—كيف ما كانت—فعليه أن يجمِّع قوى فكره على ما وضعه أمامه. عليه أن يجعل هذه الغايةَ واجبه الأعلى، وأن يسخِّر نفسه لبلوغها، لا يدعُ أفكارَه تتيه في نزواتٍ عابرةٍ وأمانٍ وخيالات. تلك هي الطريقُ الملكية إلى ضبط النفس وتركيز الفكر. وحتى لو أخفق مرارًا وتكرارًا في تحقيق غايته—وهو لا بد مخفقٌ حتى يُغلَب الضعف—فإن قوةَ الخُلُق المُتحصَّلة هي مِقياسُ نجاحِه الحقيقي، وهي مبدأٌ جديدٌ لقوةٍ وانتصارٍ آتيَيْن.

ومن لم يُهيَّأ لفهم غايةٍ عظيمةٍ فليُثبِّت أفكارَه على أداءِ واجبه أداءً لا خلل فيه—وإن بدا حقيرًا؛ فلا سبيلَ إلى جمع الأفكار وتركيزها، ولا إلى تنمية العزم والطاقة، إلا هذا. فإذا تمّ ذلك فلا شيء يعجز عنه الإنسان.

أضعفُ نفس—إذا عرفت ضعفَها وآمنتْ بهذه الحقيقة أنّ «القوة لا تُكتسب إلا بالجهد والمِران»—بادرتْ إلى بذل جهدِها، فزادت جهدًا إلى جهد، وصبرًا إلى صبر، وقوةً إلى قوة—لا تنفكُّ تنمو، حتى تغدو قويةً إلهيًا.

وكما يستطيع الضعيفُ جسدًا أن يقوّي جسدَه بالتدريب الحصيف الصبور، يستطيع الضعيفُ فكرًا أن يقوّي فكرَه بالتمرين على التفكير القويم.

إن نبذَ العَمَاء والضعف والبدءَ بالتفكير الهادف هو الدخولُ في عداد الأقوياء الذين لا يعرفون الفشل إلا طريقًا من طرُق الإدراك؛ الذين يجعلون كلَّ حالٍ خادمًا لهم؛ الذين يفكرون بقوة، ويُقدِمون بغير رهبة، ويُنجزون بإتقان.

بعد تصور الغاية، لِيَرْسُم الإنسانُ—في عقلِه—طريقًا مستقيمًا إلى تحقيقها، لا يلتفتُ يمينًا ولا يسارًا. ولنُقصِ الشكوكَ والمخاوفَ إقصاءً صارمًا؛ فهي عناصرُ مُحطِّمةٌ تُكسِّر الخطَّ المستقيمَ للجهد، فتجعله مُلتويًا غيرَ مُجدي. أفكارُ الشكِّ والخوف لم تُنجِز شيئًا—ولن تُنجِز. إنها دائمًا تؤدي إلى الإخفاق. الغايةُ والعزمُ والقدرةُ على الفعل وكلُّ الأفكارِ القويةِ تنقطع حين يدبُّ الشكُّ والخوف.

إن إرادةَ الفعل تنبع من العلم بأنّا نستطيع الفعل. الشكُّ والخوفُ عدوّا المعرفة؛ ومن يُشجِّعهما ولا يقتلهما يَخذل نفسَه عند كل خطوة.

ومن قهر الشكَّ والخوف فقد قهر الفشل؛ كلُّ فكرٍ له موصولٌ بالقوة؛ تُواجَه الصعابُ بعزمٍ وتُغلَبُ بحكمة؛ تُزرَع الغاياتُ في أوانها فتُزهِر وتُثمِر ثمرةً لا تسقطُ قبل أوانها.

إذا اتصل الفكرُ—بغير وجل—بالغاية صار قوةً خَلّاقة؛ ومن علم ذلك فقد استعدادُه لأن يكون شيئًا أعلى وأقوى من حزمةِ خواطرَ مترددةٍ وأحاسيسَ متقلّبة؛ ومن عمل بذلك فقد صار مُمسِكًا واعيًا عاقلًا لقوى عقلِه.

دور الفكر في الإنجاز

كلُّ ما يحقّقه الإنسانُ وكلُّ ما يُخفق فيه إنما هو نتيجةٌ مباشرةٌ لأفكاره. وفي كونٍ مُقامٍ بالعدل بحيث إن اختلالَ التوازن يوجب الفناء، يجب أن تكون المسؤوليّةُ الشخصيّة مطلقة. ضعفُ المرء وقوّتُه—طهارتُه ودنسُه—منه هو لا من غيره؛ أوجدها بنفسِه لا بغيره؛ ولا يُغيّرها إلا هو لا غيرُه. حالتُه أيضًا حالتُه هو لا حالةُ غيره؛ سعادتُه وشقاؤُه نابِعان من داخلِه. كما يفكر يكون؛ وكما يستمرُّ في التفكير يبقى.

لا يستطيع القويُّ أن يُعين الضعيفَ ما لم يُرِد الضعيفُ المعونة؛ وحتى إذا أراد فلا بد للضعيف أن يقوّي نفسَه بنفسِه؛ عليه أن يُنمّي—بجهدِه—القوةَ التي يُعجبُ بها في غيره. لا أحدَ غيرُه يستطيع أن يُغيّر حالَه.

اعتاد الناس أن يقولوا: «كُثُرٌ عبيدٌ لأن واحدًا مُستبدّ؛ فلنَبغَضِ المستبدّ». والآن—عند القليلين المتزايدين—نزوعٌ إلى قلب هذا الحكم: «واحدٌ مُستبدّ لأن كُثُرًا عبيد؛ فلنزدَرِ العبيد».

والحقّ أنّ المستبدَّ والعبد شريكان في الجهل؛ يُظنّهما يُؤذي كلٌّ منهما الآخر، وهما في الحقيقة يُؤذيان أنفسهما. إن معرفةً كاملةً تُبصِرُ عملَ الناموس في ضعف المظلوم وفي قوة الظالم المُسيءَ استعمالَها؛ ومحبةً كاملة—رائيةً ما يجرّه الحالان من ألم—لا تَدينُ واحدًا؛ ورحمةً كاملةً تضمّ الظالمَ والمظلوم.

ومن قهر ضعفَه ونبذَ كلَّ فكرٍ أنانيٍّ لا ينتمي إلى ظالمٍ ولا إلى مظلوم؛ إنه حرّ.

لا ينهضُ الإنسانُ ولا يقهر ولا يُنجز إلا إذا رفع أفكارَه؛ ولا يبقى ضعيفًا خسيسًا تعيسًا إلا إذا أبى أن يرفع أفكارَه.

قبل أن يُنجزَ الإنسانُ شيئًا—حتى في الدنيويّ—لا بد أن يرفع أفكارَه فوق سُفل الحيوانيّة. ليس لزامًا—كي ينجح—أن يترك كلَّ الحيوانية والأنانية؛ لكن لا بد أن يضحّي بشطرٍ منها أقلّه. مَن كان أولُ همِّه اللذّةُ الحيوانية لا يقدر أن يُفكّرَ بصفاءٍ ولا أن يُخطِّطَ بمنهجيّة؛ لا يعثرُ على مواردِه الكامنة ولا يُنمّيها؛ ويُخفقُ في كل مسعى. ما دام لم يبدأ ضبطَ أفكارِه ضبطًا رجوليًّا فليس أهلًا لضبط الشؤون ولا لانتداب المسؤوليّات الجِسام؛ ليس أهلًا لأن يعمل مستقلًا قائمًا بنفسه. لكنه محدودٌ بما يختار من أفكار.

لا تقدّمَ ولا إنجازَ بلا تضحية؛ ويكون نجاحُ المرء الدنيويُّ بمقدار ما يضحّي من أفكارِ الحيوانيّة المشوَّشة، وبمقدار ما يُثبّت عقلَه على تنمية خططه وتقوية عزمه واعتمادِه على نفسه. وكلما رفع أفكارَه، فصار أنبلَ وأقومَ وأبرّ، تعاظم نجاحُه، وازدادت بركةُ إنجازاتِه وثباتُها.

والكونُ لا يُحابِي الجشِعَ ولا الخائنَ ولا الفاسق—وإن بدا على السطح غيرَ ذلك؛ إنما يُعين الصادقَ الكريمَ الفاضل. هذا ما نادى به كلُّ المعلّمين الكبار عبر العصور بصورٍ شتّى؛ ولإثباتِه ومعرفتِه ما على المرء إلا أن يُثابرَ على جعل نفسِه أفضَلَ فأفضل برفع أفكارِه.

الإنجازاتُ الذهنيّةُ ثمراتُ فكرٍ مُكرَّسٍ لطلبِ المعرفة، أو لابتغاءِ الجميلِ الحقّ في الحياة والطبيعة. قد تقترن أحيانًا بالغرور والطموح، لكنها ليست نتاجَهما؛ بل هي نماءُ جهدٍ طويلٍ شاقٍّ وأفكارٍ طاهرةٍ غيرِ أنانية.

والإنجازاتُ الروحيّةُ تمامُ الآمالِ المُقدّسة. من عاش على تصوّرِ أفكارٍ نبيلةٍ عاليةٍ، ومن دام يستحضرُ الطاهرَ غيرَ الأناني، صار—كما يبلغُ الشمسُ كبدَ السماء ويكمُلُ القمر—حكيمًا نبيلًا في خُلُقه، وارتفع إلى مقامِ تأثيرٍ وغِبطة.

الإنجازُ—أيًّا كان نوعُه—تاجُ الجهد، وإكليلُ الفكر. وبمعونةِ ضبط النفس والعزمِ والطهارةِ والاستقامةِ والفكرِ المُوجَّهِ توجيهًا حسنًا يَرقى المرء؛ وبمعونةِ الحيوانيّةِ والكسلِ والنجاسةِ والفسادِ والتشويش يهبط.

وقد يرقى المرءُ إلى نجاحٍ عظيم في الدنيا، وإلى ذُرى عاليةٍ في الروح، ثم يهبطُ ثانيةً إلى الضعفِ والشقاء إذ يُسامح للأفكارِ المُتكبّرةِ الأنانيّةِ الفاسدة أن تتسلّطَ عليه.

والانتصاراتُ التي نالتها الأفكارُ القويمةُ لا تُحفَظ إلا بالتيقّظ؛ فكثيرون يَرخون حبْلَهم حين يأمنون النجاح، فيسقطون سريعًا إلى الفشل.

كلُّ الإنجازات—في التجارة والفكر والروح—ثمراتُ فكرٍ مُعيَّن الهدف، محكومةٌ بالنَّاموس نفسه، جاريةٌ على الطريقة نفسها؛ وإنما الفارقُ في غاية المنال.

من أراد قليلًا فليضحِّ قليلًا؛ ومن أراد كثيرًا فليضحِّ كثيرًا؛ ومن أراد عاليًا فليُكثِرِ التضحيةَ جِدًّا.

الرؤى والمثل العليا

إن الحالمين مُخلِّصو العالم. وكما يقومُ العالمُ المرئيُّ على غير المرئيّ، كذلك يعتاشُ البشرُ—رغم ما في أعمالهم من مشقةٍ وخطايا ودناءات—بجمال رؤى أولئك الحالمين في خلواتهم. إنسانيّةُ البشر لا تنسى حالمِيها؛ ولا تدعُ أمثالَهم تَخبو وتَموت؛ إنها تعيشُ بهم؛ وتعرفُهم حقائقَ ستراها—يومًا—وتعرفُها.

المؤلّفُ، والمُنحَتُ، والرسّامُ، والشاعرُ، والنبيُّ، والحكيم—هؤلاء بُناةُ «العالَمِ الآتي»، معماريُّو السماء. العالمُ جميلٌ لأنهم عاشوا؛ ولولاهم لهلكت الإنسانيّةُ العامِلة.

من يُعانِق رؤيا جميلةً ومثلًا أعلى عاليًا في قلبِه، سينالُه يومًا. لقد ضمّ كولومبس رؤيا عالَمٍ آخر فاكتشفه؛ وغذّى كوبرنيكوس رؤيا كثرةِ العوالم واتساعِ الكون فأظهرها؛ وأبصر بوذا رؤيا عالمٍ روحيٍّ من جمالٍ لا دنسَ فيه وسلامٍ تامٍّ فدخله.

فاحتفِظ برؤاك؛ واحتفظ بمثُلك؛ واحتفظ بالموسيقى التي تتحرّك في قلبك، والجمالِ الذي يتشكّل في ذهنك، وتجلّياتِ الحسن التي تغشى أطهرَ أفكارِك؛ فمنها—إن ثَبَتَّ لها—تنبتُ جميعُ الشروطِ السارّة، والبيئاتِ السماوية؛ ومنها—إن أنت صدقتَها—يُبنى عالَمُك في آخر الأمر.

أن ترغبَ أن تنال؛ وأن تطمحَ أن تُحرز. أفتنالُ أخسُّ الرغائب أوفى نصيبٍ من الإشباع، فيما تجوعُ أطهرُ الأشواق لفُقدان القوت؟ ليس هذا هو الناموس؛ ولا يكون؛ «اسألوا تُعطَوا».

احلمْ أحلامًا عالية؛ وكما تحلم تصبح. رؤياك عهدٌ بما ستكون؛ ومثلُك نبوءةٌ بما ستكشفه أخيرًا.

إن أعظمَ إنجازٍ كان—أولًا—حلمًا زمنًا؛ فالسنديانةُ تنام في الجوزة؛ والطائرُ ينتظر في البيضة؛ وفي أسمى رؤيا النفس يختلجُ مَلَكٌ مُتيقِّظ. إن الأحلامَ بَذارُ الحقائق.

قد تكون ظروفُك غيرَ مُواتية، لكنها لن تدوم كذلك طويلًا إذا أبصرتَ مُثُلًا وسعيتَ إليها. لا سبيلَ إلى أن تسيرَ إلى الداخل وتبقى واقفًا في الخارج. هذا فتىً مُثقَلٌ بالفقر والعمل؛ محبوسٌ ساعاتٍ طوالًا في ورشةٍ غير صحيّة؛ لم يتعلّم، محرومٌ من أدواتِ الصَّقل. لكنه يحلمُ بأفضل؛ يفكرُ في الفهمِ والصقلِ والرشاقةِ والجمال. يبني في ذهنِه حالةَ حياةٍ أكمل؛ تستولي عليه رؤيا فُسحةٍ أعرض وحريّةٍ أوسع؛ يحثُّه الاضطرابُ إلى العمل؛ فيستعملُ كلَّ فُسحةٍ من الوقتِ وما تيسّر من المال—وإن قلّ—لتنميةِ قواه ومواردِه الكامنة. وما يلبثُ—قريبًا—أن يتغيّر عقلُه حتى تُصبحَ الورشةُ عاجزةً عن احتوائه؛ تغدو على غير انسجامٍ مع ذهنيّتِه حتى تسقطَ من حياتِه سقوطَ الثوبِ المخلوع؛ ومع نُمُوّ الفرص التي تُلائمُ سعة قواه المُتوسّعة يخرجُ منها إلى الأبد. وبعد سنين نرى هذا الفتى رجلًا تامًّا؛ نجدهُ سيدًا لقوى من العقل يمسكُ بها سلطانًا واسعًا وتأثيرًا عظيما. في يدَيه عُقَدُ مسؤولياتٍ ضخمة؛ يتكلّم—فإذا بالحيوات تتبدّل؛ رجالٌ ونساءٌ يتعلّقون بكلامِه ويُعيدون صياغةَ خُلُقهم؛ وكالشمس يغدو مركزًا ثابتًا مُنيرًا تدورُ حوله مصائر لا تُحصى. لقد بلغ رؤيا صباه؛ وصار واحدًا مع مثلِه الأعلى.

وأنت أيضًا—أيها القارئُ الشاب—ستبلغ رؤيا قلبِك (لا الأمنيةَ الفارغة)—سواء كانت دنيّةً أو جميلةً أو خليطًا منهما—فإنك تميل—دائمًا—إلى ما تُحِبُّ في السر. في يدَيك تُوضَع النتائجُ الدقيقةُ لأفكارك؛ تنالُ ما تستحق—لا أكثر ولا أقل. إن بيئتَك—مهما هي الآن—ستهبطُ أو تثبتُ أو ترتفع بأفكارك ورؤياك ومثلِك. ستصير صغيرًا بقدرِ رغبتِك المُسيطرة؛ عظيمًا بقدرِ طموحِك الغالب. وبلسان ستانتون كيركهام ديفِس الجميل: «ربما أنت تُمسكُ الدفاترَ اليوم؛ وبعد قليلٍ تخرجُ من الباب الذي طالما بدا لك حاجزًا لأحلامِك؛ فإذا بك أمام جمهور—والقلمُ بعدُ وراء أذنِك، وبقعُ الحبر على أناملك—هنالك تفيضُ سيولُ إلهامك. ربما كنتَ تسوق الغنم؛ فتَهيمُ إلى المدينة—قرويًّا مُندهشًا—تحت هداية الروح الجريئة إلى مرسمِ المعلّم؛ وبعد حينٍ يقول لك: “ما عاد عندي ما أُعلّمك”. فإذا بك المعلّمَ الذي كان يقود الغنم وقد حلم—قريبًا—بعظائم. ستضع المنشارَ والفأْس، وتتولّى إصلاحَ العالم».

إن السُّذجَ والجهلةَ والكسالى—الذين لا يرون إلا آثارَ الأشياء لا ذواتَها—يتحدّثون عن «الحظّ» و«القَدَر» و«الصُّدفة». يرون رجلًا يغتني فيقولون: «يا له من محظوظ!»؛ ويشهدون آخرَ يَرقى عقليًّا فيقولون: «ما أطيبَ حظَّه!»؛ وينظرون إلى قدّيسٍ واسعِ التأثير فيقولون: «ما أسعدَه!». لا يرون الآلامَ والإخفاقاتِ وصراعَ هؤلاء الذين خاضوها مختارين لينالوا خبرتهم؛ لا يعلمون التضحياتِ التي قدّموا، ولا الجهودَ التي بذلوا، ولا الإيمانَ الذي مُورِس حتى تغلّبوا على ما يبدو لا يُقهَر وبلغوا رؤيا القلب. لا يعرفون الظلامَ وأوجاعَ القلب؛ إنما يرون النورَ والفرح فيسمُّونه «حظًّا». لا يرون الرحلةَ الطويلة الشاقة؛ إنما يُبصرون الغايةَ السارّةَ فيسمّونها «بختًا»؛ لا يفهمون العملية، بل يشهدون النتيجة، فيسمّونها «صُدفة».

في كل شؤون البشر جهود ونتائج؛ ومقدارُ النتيجة على قدرِ الجهد. لا «صُدفة». العطايا والقُدراتُ والممتلكات—ماديةً كانت أم عقليةً أم روحيةً—ثمارُ الجهد؛ هي أفكارٌ تمت، وأشياءٌ أُنجزت، ورؤًى تحققت.

إن الرؤيا التي تُجلِّيها في عقلِك، والمثلَ الذي تُتوِّجُه في قلبِك—بهما تبني حياتَك؛ وبهما تكون.

السكينة

سكونُ العقل إحدى جواهر الحكمة الجميلة؛ وهو ثمرةُ جهدٍ طويلٍ صبورٍ في ضبط النفس. ووجودُه علامةُ تجربةٍ ناضجةٍ، ومعرفةٍ أزيدَ من المألوف بقوانين الفكر وسُننه.

يغدو الإنسان ساكنًا بقدر ما يفهم نفسَه ككائنٍ مُنبثقٍ من الفكر؛ إذ يستلزم هذا الفهمُ فهمَ الآخرين كذلك نتاجًا للفكر. وكلما نما الفهمُ القويمُ، ورأى أوضحَ فأوضحَ العلاقاتِ الداخليةَ للأشياء بعمل السبب والنتيجة، كفَّ عن اللَّغَط والقلق والحزن، وبقي راسخًا ثابتًا سكينًا.

ومن تعلّم حُكمَ نفسِه عرف كيف ينسجمُ مع غيره؛ وهؤلاء—بدورهم—يجلّون قوّتَه الروحية، ويشعرون أنهم يستطيعون التعلّمَ منه والاعتمادَ عليه. وكلما ازداد المرءُ سكونًا ازداد نجاحُه وتأثيرُه وقوتُه على الخير. حتى التاجرُ العاديُّ يرى رخاءَ تجارتِه يزدادُ مع نموّ ضبطِه نفسَه وتوازنه؛ فالناسُ دائمًا يؤثرون التعاملَ مع صاحب السَّمتِ الراسخ.

إن الرجلَ القويَّ الساكن محبوبٌ مُبجَّلٌ أبدًا؛ هو كشجرةٍ وارفةٍ في أرضٍ ظامئة، أو صخرةِ كِهفٍ في العاصفة. «من لا يُحبُّ قلبًا سكينًا، وحياةً حلوةً متوازنة؟ لا يضرُّ هؤلاء أمطرَت أم أشرقت، ولا أيُّ تبدّلٍ يطرأ؛ إذ هم حلوون سكينةً دائمًا. ذلك التوازنُ المحمودُ الذي نسمّيه السكينةَ آخرُ دروس التهذيب، وثمرةُ النفس؛ وهو نفيسٌ كالحكمة، بل أرجحُ من الذهب—نعم، من الذهب الإبريز. ما أهون السعيَ وراء المال بإزاء حياةٍ سكينة—حياةٍ تُقيم في محيط الحق، تحت الأمواج، وراء العواصف، في السكينة الأزلية!

«كم نعرفُ من أُناسٍ عكّروا حياتَهم، وأهلكوا كلَّ حلوٍ جميلٍ بانفجاراتِ الغضب؛ دمّروا توازُنَ خُلُقِهم وصنعوا دمًا فاسدًا! ولعلّ أكثرَ الناس إنما يهلكون حياتَهم ويفسدون سعادتَهم بفقدان ضبط النفس. ما أقلَّ ما نلقى في الطريق أناسًا متوازنين لهم ذلك التناسقُ البديع—سِمَةُ الخُلُق التام!

نعم؛ إن الإنسانية لتَجيشُ بأهواءَ غيرِ مضبوطة، وتضطربُ بأحزانٍ لا تُحكَم، وتُذريها رياحُ القلق والشكّ؛ وحده الحكيم—وحده الذي ضُبطت أفكارُه وطُهِرت—يُخضِعُ رياحَ النفس وعواصفَها.

أيتها النفوسُ المُقذوفةُ في العاصفة—حيثما كنتم، وتحت أيِّ شروطٍ عشتم—اعلموا هذا: في محيط الحياة تبتسم جُزرُ الغِبطة، وشاطئُ مثلِكم الشمسيُّ ينتظرُ قدومَكم. ضعوا أيديَكم وثيقةً على دفّة الفكر؛ ففي سفينةِ نفوسِكم يَرقدُ السيدُ الآمر—إنه نائمٌ فحسب—فأيقظوه. ضبطُ النفس قوة؛ والفكرُ الحقُّ سيادة؛ والسكونُ سلطان. قولوا لقلوبِكم: «سلامٌ، اسكُني!»


الخاتمة

لقد بلغتَ الصفحةَ الأخيرة من كما يفكر الإنسان يكون. شكرًا لأنك منحتَ هذا الكُتيِّبَ انتباهَك وصمتَك وقلبَك. لقد أثبتَّ بمجرد قراءتك المنفتحة الناموسَ الذي يُصرِّح به: إن الفكر خَلّاقٌ، وإنك صانعُ نفسِك.

فلا تدَع هذه الحقائقَ تبقى على الصفحة. راقِبْ أفكارَك؛ وجِّهها برفقٍ وحزمٍ معًا؛ وانظر كيف تستجيبُ لك الحياة. فهذا كتابٌ ليس ليُقرأ فقط بل ليُعاش.

وإذا رسختْ كلماتُه فيك فانقلْها. اُهدِ هذا الكتاب إلى نفسٍ أخرى مُهيّأةٍ لتتذكّر قدرتَها. هكذا تمضي رؤيا جيمس ألن في موجاتٍ متتالية عبر الزمن—من عقلٍ إلى عقل، ومن قلبٍ إلى قلب.

لْتَكُنْ أفكارُك صافيةً، وغايَتُك راسخةً، وأيّامُك سكينَةً.